الأسير المقدسيّ محمود موسى عيسى عيسى



سورٌ من وراء سورٍ من وراء سور، أبراج مراقبةٍ تملأ الأفق، وجيشٌ صغيرٌ يحيط بالمكان إحاطة السوار بالمعصم. تتجاوز الأبواب والأسوار فتقودك خطى الجنود إلى سردابٍ مظلمٍ تحت الأرض تعلوه أنابيب مياه عادمة ذات رائحة نتنة، وأضواءٌ خافتة بالكاد تسمح لك بالرؤية، وعلى جانبيْ الممرّ تتوزّع غرفٌ صغيرة لا تتجاوز مساحتها الأمتار الأربعة إلاّ بقليل، جدرانها خالية إلاّ من عفنٍ تراكم عليها عبر السنين لشدّة الرطوبة، بداخلها دورة مياهٍ وسريرٌ صغيرٌ ملاصقٌ لها، وفي زاوية كلٍّ منها شبحُ إنسانٍ، تُسمّيه سلطات الاحتلال إرهابيّاً خطراً. هذه هي حال قسم العزل في سجن الرملة الواقع في شمال الأرض المحتلّة عام 1948، والذي يقبع فيه عشرات الأسرى الفلسطينيّين، ومن بينهم الأسير المقدسيّ محمود موسى عيسى.
عملية الوفاء للشيخ أحمد ياسين
تتّهم سلطات الاحتلال محمود بالمشاركة في واحدةٍ من أشهر عمليّات المقاومة الفلسطينيّة، والتي اختطف خلالها مقاتلون من كتائب القسّام الرقيب أوّل في جيش الاحتلال نسيم توليدانو قرب مدينة اللّد المحتلّة بتاريخ 13/12/1992، وطالبوا سلطات الاحتلال بإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين -مؤسّس حركة حماس- مقابل الإفراج عنه، لكنّ دولة الاحتلال لم تستجبْ لمطلبهم فقُتِل توليدانو. وأطلقت دولة الاحتلال على إثر ذلك عمليّةً شرسةً ضدّ حركة حماس أبعدت خلالها 415 من قادتها إلى مرج الزهور في الجنوب اللبناني، واعتقلت الآلاف من عناصرها في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة كان بينهم محمود عيسى الذي اعتُقَِل من منزله في بلدته عناتا شمال شرق مدينة القدس في 3/6/1993، ولم يتجاوزْ عمره آنذاك 25 سنة.
انتقام المحتلّ
لمّا كانت دولة الاحتلال تعتبر محموداً من أبرز المشاركين في عمليّة الاختطاف، فقد رأتْ في اعتقاله نصْراً، وفرصةً للانتقام من شخصٍ استطاع أنْ يُصيب كبريائها في الصميم، ومنذ اللحظة الأولى لاعتقال محمود بدأ المحتلّ انتقامه فمنع والدته من زيارته خلال جلسات المحاكمة الأولى وأمرَ بإغلاق منزل ذويه، ومن ثمّ حكم عليه بالسجن لثلاثة مؤبّدات وأربعين عاماً، ولم يسمحْ المحتلّ لوالد محمود بزيارته إلاّ بعد عاميْن من اعتقاله، وقد توفّي والد محمود بعد زيارته بفترةٍ بسيطةٍ إثر تدهور صحّته، ولم تسمحْ إدارة السجن لمحمود بالمغادرة لتوديع والده المتوفّي، وإمعاناً في التضييق عليه رفضت سلطات الاحتلال طلباً تقدّم به محمود لدراسة العلوم السياسيّة من سجنه، علماً أنّها تسمح في الغالب للأسرى بمتابعة دراستهم في الجامعات العبريّة حصراً.
تحت كلّ هذه الضغوط، وهذا الحكم الأبديّ بالسجن، لم يكنْ أمام محمود سوى أنْ يُحاوِل الإفلات من سجنه بأيّ طريقةٍ، وبالفعل فقد حاول مع عددٍ من رفاقه الإفلات من سجن عسقلان -المشهور بوحشيّة محقّقيه-، لكنّ سلطات الاحتلال اكتشفت النفق الذي كان محمود يحفره مع رفاقه ليُغادروا عبره، وأمسكت بهم وفرّقتهم عن بعضهم وحكمت عليهم بتمديد فترة سجنهم، ونقلهم إلى العزل الانفراديّ.
عشرة أعوامٍ تحت الأرض
مع بداية عام 2008 يكون محمود قد قضى في زنازين العزل العفنة، ما يزيد على عشر سنين، لم يرَ أيّاً من أقاربه خلال خمسةٍ منها. وما يزال الاحتلال يُشدّد في ظروف سجنه يوماً بعد يوم، فهو يمنع إدخال أيّ طعامٍ إليه غير طعام السجن شديد السوء، كما يمنعه من شراء الطعام من مقصف السجن كغيره من السجناء، ويمنع إدخال أيّ ملابس له غير ملابس السجن كما يمنع إدخال أيّ نوعٍ من الأغطية إلى زنزانته.
15 عاماً مرّت ومنزل الأهل الذي غادره محمودٌ مقيّداً لا زال على حاله، ينتظر عودة ساكنه إليه، ويحتضن والدته التي لم يُغادِر محمود بالها يوماً على الرغم من طول الغياب، وهي لا تزال تحيى على أمل اللقاء، ولا تزال تنتظر اليوم الذي تُزوّج فيه ابنها الذي يعِدّ اليوم عامه الأربعين في قبرٍ رطبٍ يموت داخله الأحياء في اليوم ألف مرّة.