إغلاق مؤسسة الأقصى... تغييب الشاهد
حدث ما كان كثيرٌ من المراقبين ينتظره، فأمر إغلاق مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية كان الشيء الطبيعي الذي يمكن أنْ تقوم به المؤسسة الصهيونية الاحتلالية، ولم يكنْ ذلك مفاجئاً.. فمؤسسة الأقصى تطوّرت لتصبح أهم شاهد ومراقب دائم لتحركات سلطات الاحتلال الصهيونية في محيط المسجد الأقصى المبارك وتحته بل وفي جميع قرانا وأراضينا المصادرة منذ ستين عاماً، وأعادت هذه المؤسسة للمسلمين إلى الأذهان مدناً وقرىً كان ذكرها قد ضاع أو كاد بعد كل جهود التهويد وطمس الهوية العربية والإسلامية لهذه الأماكن، فمن كان يسمع بصرفند حيفا أو مسجد قرية حطين أو مجدل عسقلان أو تلك القرى الكثيرة التي دمرها الاحتلال وتركها للنسيان لولا قيام مؤسسة الأقصى باستنهاض الذاكرة الإنسانية لا العربية فقط، وتذكير العالم كله بهذه المواقع والأسماء؟ إن الجريمة التي قامت بها مؤسسة الأقصى لم تكنْ لتغتفر في عرف المؤسسة "الإسرائيلية"، ذلك أنّ مؤسسة الأقصى كانت مشروع مقاومة لنوع آخر من الاحتلال الذي يعاني منه أهل الأراضي المحتلة عام 1948 وجميع القرى والمدن التي احتلت في تلك الفترة وشطبت من الذاكرة الإنسانية، هذا الاحتلال كان احتلالاً للعقول والذاكرة والتاريخ، والمؤسسة الصهيونية تدرك معضلتها المتمثلة في عدم وجود جذور تاريخية تربطها بهذه الأرض إلا ما تمكنت من اخــتراعه وتنميقه أمام العالم. لكن مؤسسة الأقصى جاءت لتكشف للعالم كله أن مقولة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) التي قامت على أساسها (دولة "إسرائيل") لم تكن أكثر من أكذوبة كبرى روجت لها الحركة الصهيونية وكذبتها الأرض والتاريخ والآثار، وكانت أكبر جريمة ارتكبتها المؤسسة عندما جمعت أكثر من ثلاثة آلاف وثيقة بينت أن شعباً عريقاً وآثاراً خالدة كانت وما زالت محفوظة في ثنايا هذه الأرض... ولهذا كان حكم الإعدام على هذا الجهد هو الحكم الطبيعي على المؤسسة الأولى في خندق الدفاع الثقافي والتاريخي في داخل الأراضي المحتلة.. هذا على صعيد التوثيق التاريخي وكشف الزيف الحضاري الذي تنطعت به الدعاية الصهيونية ردحاًَ من الزمان. أما على صعيد المسجد الأقصى المبارك والدفاع عن آخر ما بقي من مقومات صموده، وهو مجرد الوجود على وجه الأرض، فقد كان لا بد أن يتم إعدام الشاهد الرئيس على جميع جرائم الاحتلال في القدس وفي المسجد الأقصى المبارك ومبانيه المختلفة..
لقد كانت مؤسسة الأقصى أول من كشف عن حفريات الجزء الجنوبي من الأقصى والتي امتدت تحت أساسات الجامع القبلي، ثم كانت المؤسسة أول من عمل على تخريب المخطط الصهيوني المتآمر على المصلى المرواني عام 1996 ضمن صفقة عرفت حينها (ما تحت الأرض لليهود وما فوق الأرض للمسلمين)، ثم جاء افتتاح البوابات الأموية للمصلى المرواني ليمثل كشفاً علمياً دمر المخططات الأثرية التي وضعها اليهود للمعبد المزعوم الثاني في تلك الجهة وأظهر فشلها الذريع... وهذا كان السبب الرئيس الذي أصاب المؤسسة الأثرية الصهيونية الرسمية بالارتباك بل بلوثة من الجنون انتهت بالزيارة المشؤومة لأرئيل شارون إلى الأقصى وتفجر انتفاضة الأقصى.
ثم ها هي المؤسسة تكشف عن أشرس حملة صهيونية مبرمجة للحفريات في الجهة الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى المبارك، وجاء المؤتمر الصحافي لأركان المؤسسة وعلى رأسهم مؤسسها الأول الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في الداخل قبل يومين من قرار الإغلاق ليشكل القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد حمل المؤتمر الصحافي وثائق لم يكن مقرراً لها أنْ تظهر للعلن في هذا الوقت من قبل المؤسسة "الإسرائيلية"، وكان من شأن ذلك أن لفت أنظار الكثيرين إلى حقيقة ما يحدث سراً في تلك المنطقة من إعادة تشكيلٍ وتغيير للطابع العام والشكل العام بما يخدم مخططات السلطات "الإسرائيلية" التي تهدف إلى اقتطاع أجزاء من الأقصى المبارك كما كشفت مؤسسة القدس الدولية قبل عدة شهور. ولهذا فإنّه لا يستغرب إطلاقاً أن تقوم المؤسسة "الإسرائيلية" بهذا العمل وتتحول إلى سياسة الإرهاب والتخويف وتكميم الأفواه التي تلجأ إليها عند عجزها فكرياً وتاريخياً وعلمياً وعملياً، فقد أغلقت من قبل لجنة التراث الإسلامي في داخل المسجد الأقصى المبارك عام 2002، وأغلقت بعدها مؤسسة الرفادة والوفادة وغيرها من المؤسسات..
وفي الحقيقة فإنّ ما أخشاه أنْ تمتد الأفكار المتطرفة التي تسيطر على عقول قادة هذه المؤسسة (المصابين أصلاً بنوع من هستيريا القوة المفرطة مع وجود أزمة قيادةٍ واضحةٍ في الجانب "الإسرائيلي") لتمسَّ بالأذى الشخصي شخصياتٍ وأفراداً بدلاً من استهداف المؤسسات فقط، وذلك بهدف ضرب جميع مقومات مشروع المقاومة العلمية في الأراضي المحتلة من مؤسسات وعقول، وتمهيد الطريق أمام العمل في صمت تام وتعتيم إعلامي كامل لإتمام مهمة الاستيلاء الكامل على المسجد الأقصى المبارك وتغييب أي شاهد تاريخي أو حضاري في الأراضي المحتلة يمكنه أن يكشف زيف الادعاءات الصهيونية، خاصة مع غياب القوى الفاعلة التي تؤثر في الإعلام والجماهير وتحركها نحو بناء وعيٍ صحيحٍ بحقيقة ما يجري على الأرض، والواجب على جميع الهيئات في الداخل والخارج أن تتضافر جهودها معاً لمواجهة هذا المشروع الاحتلالي القديم الجديد، ولا تترك مؤسسة الأقصى لتذوب في الذاكرة.