كيف نشارك في مواجهة التّطبيع؟
![]() ![]() ![]() ![]() |
براءة درزي
باحثة في مؤسسة القدس الدولية
لم يعد التطبيع مع الاحتلال بالأمر النادر في العالمين العربي والإسلامي، ولم يعد المطبّعون يكتفون باللقاءات السرية مع المسؤولين الإسرائيليين، أو لقاءات "الصدفة" التي تجمعهم في غرفة واحدة أو إلى طاولة واحدة مع إسرائيليين، بل باتوا ينظرون إلى التطبيع على أنّه فضيلة يتطلبها السلام في المنطقة، وضرورة لإعطاء دولة الاحتلال إشارات أمان لطمأنتها "كدولة غير عربية في محيط عربي من 400 مليون إنسان".
ولعلّ هذا الانفتاح العربي، لا سيّما من دول الخليج، التي باتت تقدّم نفسها على أنّها صاحبة القرار العربي، وممثّلة شعوب المنطقة وخياراتها وتوجّهاتها، قد أينع وازدهر بفضل الدعم الأمريكي له، وفي الوقت ذاته، بسبب استماتة هؤلاء إلى إرضاء السيد الأبيض باسترضاء "إسرائيل" وخطب ودّها.
وعلى الرّغم من الترويج لهذه الجريمة تحت اسم التعامل مع "إسرائيل" من باب الأمر الواقع، إلّا أنّها لا تزال تواجه برفض واشمئزاز، لا سيّما على المستوى الشعبي. وقد أظهر استطلاع المؤشّر العربي لعام 2017-2018 أنّ 87% من العرب يرفضون اعتراف بلدانهم بالاحتلال الإسرائيلي، مقابل 84% كانوا يرفضون هذا الاعتراف وفق استطلاع المؤشر عام 2011. وهذا الرقم إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ الرأي العام لم تخدّره تبريرات الجهات اللاهثة وراء التطبيع، ولم تقنعه. وهو بذلك، من أهمّ الأركان لتحصين القضية الفلسطينية ومنع تصفيتها، ويدرك ذلك الإسرائيليون تمامًا، كما يبدو من كلام رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي كتب عام 2017، على حسابه باللغة العربية على موقع تويتر، إنّ "أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا بل الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرّض على مدار سنوات طويلة لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطئ ومنحاز".
ونظرًا إلى اتّساع دائرة التطبيع لتشمل مختلف المجالات السّياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية، علاوة على الفنّ والرياضة والثقافة، من دون توفير التّطبيع من الباب الديني، فإنّ ذلك يجعل من الممكن واللازم علينا أن نكون جزءًا من محاربة التطبيع، على المستويين الفردي والجماعي. وتتعدّد الأدوات المتوافرة لمواجهة التطبيع، فما يصلح في موضع قد لا يصلح في آخر، وما قد يكون ممكنًا بالنسبة إلى أحدنا قد لا يكون ممكنًا بالنسبة إلى آخر. لكن الثابت هو أنّ أيّ مؤمن بالقضية الفلسطينية لن يعدم وسيلة لنصرتها، ولعلّ أحد الطرق إلى ذلك رفض التطبيع ومقاومته.
على المستوى الفردي، فإنّ مقاومة التطبيع يمكن أن تكون عبر وسائل عديدة، من ضمنها التزام مقاطعة بضائع الشركات الإسرائيلية، وتلك الداعمة للاحتلال الإسرائيلي. كذلك، الامتناع عن المشاركة في الفعاليات الثقافية أو الفنية أو حتى ما يروّج له من فعاليات تحت عنوان التسامح الديني للجمع بين المسلمين والمسيحيين ويهود من دولة الاحتلال. وقد شهدت الأعوام الماضية نماذج مشرفة لحالات عديدة رفض فيها لاعبون عرب اللعب ضدّ لاعبين إسرائيليين، من باب رفضهم التطبيع مع الاحتلال. وفي هذه الحالات، فإنّ الالتزام الفردي لا يقلّ أهمية عن الالتزام الجماعي، لأنّ هذا الأخير يتعزّز برفض الأفراد التماهي مع الإسرائيلي الذي يحاول أن يقدّم نفسه في قالب إنساني ليرسم مشهدًا عن دولة الاحتلال يفصلها به عن ماضيها وحاضرها الدموي ضدّ العرب والفلسطينيين. وهذا البعد الكامن في الفعاليات الرياضية على وجه التحديد، أي أنسنة الاحتلال واختراق الوعي الشعبي، هو ما كان وراء ردة فعل وزيرة الثقافة في حكومة الاحتلال كما شهدناها بعد المشاركة الإسرائيلية في مباراة في تشرين أول/أكتوبر 2018 في الإمارات، وفي ردود الفعل الإسرائيلية المرحّبة بفعاليات الرياضة التطبيعية مع الدول العربية.
كذلك، من الأهمية بمكان الضغط الشعبي على الحكومات لوقف التطبيع مع الاحتلال، ولعلّ النموذج البارز هنا هو ما يقوم به الشارع الأردني من حملات مناهضة للتطبيع، لا سيّما حملة "غاز العدو احتلال" التي تضغط على الحكومة ضدّ اتفاق استيراد الغاز من دولة الاحتلال، وكذلك الحملة التي أدّت إلى إعلان العاهل الأردني عن أنّ بلاده لن تجدّد العمل باتفاقية الغمر والباقورة الملحقة باتفاقية السلام الموقعة بين عمان و"تل أبيب" عام 1994.
ولا شكّ في أنّ الأحزاب والقوى الفاعلة على اختلاف أطيافها لها دور كبير في هذا المجال، لا سيّما العمل على نشر الوعي على المستوى الشعبي للتعريف بخطورة التطبيع على القضية الفلسطينية والحقّ الإسلامي والعربي، والمساهمة في تعزيز الرفض الشعبي للتطبيع كجريمة وخيانة، والتركيز على أنّ التطبيع يبدأ بكسر الحاجز النفسي لدى الرافضين للاحتلال، ليحوّل هذا الرفض إلى صمت وقبول، وربما دفاع عنه وانحياز إليه.
على العموم، يمكن القول إنّ كل خطوة يمكن أن تساهم في عزل "إسرائيل" على أساس جرائمها المتمادية، هي جهد مطلوب، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وليس من خطوة يمكن النظر إليها على أنّها صغيرة ومتواضعة بل هي خطوة تنضمّ إلى غيرها من الخطوات لتشكّل حالة رافضة للاحتلال وللعلاقات معه، ولتكون واحدة من طرق مقاومة الاحتلال، إلى أن تسترجع الأرض والحقّ والمقدّسات.