انتفاضة الأقصى في ذكراها الـ19: شعلة مقاومة لا تنطفئ
![]() ![]() ![]() ![]() |
براءة درزي
باحثة في مؤسسة القدس الدولية
قبل 19 عامًا من اليوم، اندلعت انتفاضة الأقصى بعدما اقتحم أريئيل شارون المسجد الأقصى ترافقه قوات الاحتلال، فتصدّى المصلون في المسجد لهم، فاعتدت عليهم القوات المدجّجة بالسلاح، وأوقعت تسعة شهداء، فكانت تلك شرارة الانتفاضة التي جسّدت أحد أبرز محطات المقاومة في التاريخ الفلسطيني. هدأت انتفاضة الأقصى في عام 2005 بعد اتفاق هدنة في قمة شرم الشيخ، لكن اعتداءات الاحتلال لم تهدأ، بل لا يزال الاحتلال يتمادى في اعتداءاته.
لا تختلف الظروف اليوم كثيرًا عن الظروف التي اندلعت على خلفيتها انتفاضة الأقصى عام 2000 من الاعتداءات الإسرائيلية على الأرض والإنسان والمقدسات، بل هي اليوم ظروف أصعب واعتداءات أكبر: فالاعتداءات على المسجد في تصاعد، وتتمّ بمشاركة ومباركة من المستوى الرسمي في دولة الاحتلال، والاحتلال يمنع المسلمين من دخول المسجد، ويعتدي على موظفي الأوقاف ويمنعهم من أداء عملهم، واستهداف باب الرحمة مستمر ومحاولات إعادة إغلاقه لم تتوقّف، في ظلّ مساعي الاحتلال المستمرّة إلى إعادة تعريف الوضع القائم في الأقصى وإلزام الجميع بهذا التعريف.
أمّا في القدس عمومًا فإنّ سياسة التهويد الإسرائيلية على أشدّها في محاولة لتغيير وجه المدينة العربي والإسلامي، وهذا ما يظهر واضحًا في التهويد الديمغرافي إذ أظهرت أرقام حصلت عليها منظمة "السلام الآن" الإسرائيلية من بلدية الاحتلال في القدس أنّ المقدسيين لم يحصلوا على أكثر من 16,5% من تراخيص البناء التي أعطتها بلدية الاحتلال منذ عام 1991 حتى عام 2018 في القدس بشطريها، في حين بلغت نسبة الرخص للبناء الاستيطاني في شرق القدس في المدة ذاتها 37,8% من مجمل رخص البناء الممنوحة في القدس.
ويضاف إلى ذلك مجازر الهدم التي تتنفذها سلطات الاحتلال عامًا بعد عام، وبالتوازي مع الإجراءات الإسرائيلية المتشدّدة في منح تراخيص البناء للمقدسيين، تعزّز سلطات الاحتلال سياساتها ضدّ الوجود الفلسطيني في القدس عبر هدم منازلهم، بذرائع مختلفة، في مقدّمتها البناء من دون ترخيص. ووفق أرقام جمعية "بتسيلم" الإسرائيلية، هدم الاحتلال في الأشهر السبعة الأولى من عام 2019، أكثر من 112 وحدة سكينة بذريعة عدم الترخيص، وهذا الرقم يفوق عدد المنازل التي هدمها الاحتلال في شرق القدس سنوًيًا منذ عام 2004، وفق الأرقام المتوافرة للجمعية. وكانت مجزرة الهدم في وداي الحمص بصور باهر في تموز/يوليو 2019 من أكبر مجازر الهدم التي نفذها الاحتلال في الشطر الشرقي من القدس منذ احتلاله عام 1967، شملت هدم قرابة 100 شقة سكنيّة بذريعة الأمن وقرب المنازل من الجدار العازل.
وعلاوة على منع المقدسيين من البناء في القدس وهدم منازلهم، وتعزيز الاستيطان في الشطر الشرقي من الميدينة فإنّ قائمة الممارسات الإسرائيلية الهادفة إلى التضييق على المقدسيين وحملهم على ترك المدينة لا تنتهي، من الضرائب الباهظة التي تساهم في تآكل الحياة الاقتصادية للمقدسيين بالتوازي مع سياسات ارتفعت معها نسبة الفقر لديهم إلى ما يقارب 80%. ويضاف إلى ذلك استهداف قطاع التعليم بالأسرلة والتهويد لضرب كلّ المفاهيم التي تتعارض مع الاحتلال وتعزّز الانتماء الوطني لدي المقدسيين.
ومع هذه السياسات التهويدية، ضيقت سلطات الاحتلال قبضتها الأمنية على الفلسطينيين واتخذت من الإجراءات ما يهدف إلى اجتثاث العمل المقاوم من جذوره، عبر إجراءات الضبط والعقاب، التي تصاعدت وتيرتها بعد اندلاع انتفاضة القدس في تشرين أول/أكتوبر 2015، وهي إجراءات رفدها التنسيق الأمني ليعزّز من أثرها في تقليص القدرة على تنفيذ أعمال مقاومة ضدّ الاحتلال، ناهيك عن اندلاع انتفاضة عارمة وشاملة.
واليوم، فإنّ سياسة التهويد وتطويق العمل المقاوم تأتي تحت مظلة أمريكية حيث تقدّم الولايات المتحدة دعمًا مطلقًا للرواية الإسرائيلية وتتعاون مع الاحتلال لفرضها وتثبيتها، كما تبيّن في اعتراف ترمب بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل" في كانون أول/ديسمبر 2017، وهو الإعلان الذي جاء في سياق سياسة ترمب الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، التي تختصر تحت عنوان "صفقة القرن"، وهي وإن لم يعلن عن مضمونها رسميًا بعد، إلّا أنّ ما سبقها من تطورات وخطوات أمريكية، سواء ما يتعلق بالقدس أو اللاجئين والأونروا وغير ذلك، يؤكّد أين تصبّ الصفقة وإلى ماذا ترمي. ومع السياسة الأمريكية، فإنّ الموقف العربي يشهد تراجعًا واضحًا يتجلّى خصوصًا في موجة التطبيع المتصاعد التي يروّج لها البعض تحت عنوان التسامح والحرية الدينية، والرياضة، والثقافة والفن، وضرورة التعامل مع "إسرائيل" من باب الأمر الواقع.
لكن على الرغم من ذلك، تبقى انتفاضة الأقصى العنوان الأبرز في المسار الفلسطيني- العنوان الذي يجسّد خيار المقاومة الذي لم يتركه الشعب الفلسطيني يومًا حتى عندما تُرك الفلسطينيون من دون دعم أو مساندة، وهو العنوان الذي قرأناه مرّات كثيرة قبل انتفاضة الأقصى وبعدها، من هبّة البراق إلى هبة النفق، وهبة باب الأسباط، وهبة باب الرحمة وغيرها، وهو العنوان الذي يؤكّد أنّ شعلة المقاومة لن تنطفئ ما دام هناك احتلال!